محل تبلیغات شما

*ان المفكر، في نظر هيدجر، مدعو لان يكون متلقيا وجازما، مركزا بصورة تامة على ما هوهناك ينتظر ان يدرَك. ينبغي ان يعرف كيف يصغي ويلاحظ، لان التفكير ليس، في المقام الاول، فاعلية تبدأ بالمفكر بقدر ما تبدأ باالPhysis، اي بالكينونة ذاتها. ينبغي ان يتعلم المفكر كيف يندهش ازاء ما يدركه، تماما كما اندهش الاغريق القدامى. وهذا يستوجب امتلاكه ميلا للانفتاح على الاشياء بمعنى جذري للانفتاح، انفتاح هو اصغاء بأذن داخلية. ص 102

*ما يعنيه هذا لهيدجر هو ان هناك مملكة للعب لا تطالها مبادئ العقل، مملكة هي مجال التفكير شعريا. ان العقل نفسه، يعتقد هيدجر، يقودنا الى حيث لا قرار، لانه يضع مبادئه ذاتها فوق العقل- خارج سلطته. العقل الذي يريد ان يكون ذا سلطة على كل شيء لا سلطة له على نفسه، اذ لو سألنا ما هو السبب او الاساس الذي تقوم عليه مبادئ العقل، لما سمعنا جوابا. لتجنب الارتداد الى ما لا نهاية، تقف عملية اعطاء الاسباب والمسوغات عند العقل نفسه: ان مبدأ السبب الكافي لا سبب كافيا له. ص 106

*.أدونيس، مثله مثل اي كائن من نوعه دائما غير مكتمل المعنى، مادام حيا. الحجر، ما دام موجودا، دائما" مليء تماما بمعنى حجري"، دائما متماه على نحو مطلق مع معنى كونه حجرا، بينما، أدونيس، ما دام حيا، لا يتماهى على نحو مطلق مع معنى كونه أدونيس في اي لحظة من لحظات وجوده. معنى كونه أدونيس هو دائما مشروع غير مكتمل. انه يتوحد بالنقص، اذن، بمعنى انه المسافة_ الفجوة _ التي تفصل بين ما هو في واقعه وبين ما سيكونه. إنه مرحلة انتقالية دائمة، سيروة عبور، مما يفسر لماذا يظل بدون هوية او ماهية ثابتة. هذا تماما ما يدركه ادونيس عن ذاته اذ يصف نفسه قائلا:

انت هذا العبور الذي يتقرى، ويولد في كل معنى:

لن يكون لوجهك وصف

.قصده، اذن ، ان يعيدنا الى الفكرة التي طرحناها سابقا، الا وهي المتعلقة بانه لا يقبض على ذاته مطلقا في حالة من التماهي الذاتي المطلق، اي ان وجوده، بعكس وجود الحجر، لا تستنفده هوية او ماهية محددة سابقة عليه منطقيا، على الاقل. ولذلك ما يتماهي معه في اي لحظة( اي وجهه) ليس شيئا مكتمل المعنى بحيث يمكن وصفه على نحو محدد ونهائي. او ربما الاصح القول، من وجهة نظر ادونيس، انه ما دام حيا، فلا يمكن ان يتماهى مع ذاته.

ص 167 و168

*الوجود الانساني، باعتباره نقصاً، هو نزوع دائم نحو الامتلاء. الفرق بين شخص وآخر يكمن في كيفية ملء كل منهما لهذا الفراغ. بعضهم قد يختار تكرار ذاته الواقعية، متوهما انه ذو هوية أو ماهية ثابتة. ولكنه بهذا لا يفعل أكثر من التخلي عن مسئوليته في خلق ذاته، تاركا هذه المسألة للظروف والحالات المستقلة عن اختياراته. ص 171

*"الذات" الأدونيسية، بالمقابل، هي عكس ذلك تماماً، انها، في آن، مصدر للفعل وحقل للفعل. ولذلك ما يقبض عليه أدونيس، استبطانياً، على انه حقيقته الخاصة هو حقيقته الخاصة فقط بمعنى كونه سيرورة صيرورته هو ذاتاً، وليس بمعنى سيرورة صيرورته ذاته، وكأن هناك مفهوما سابقا على وجوده يحدد معنى كونه هذا الشخص أدونيس، أي يحدد هويته الثابتة، وما عليه سوى أن يقطع أشواطاً معينة خلال حياته ليصل الى تجسيد هذا المفهوم القبلي والتماهي مع ذاته. ما يختبره على نحو مباشر في لحظات نادرة من الاستبطان هو انه يختزن في داخله ذواتاً جنينية عديدة تتوقف ولادة اي منها على اختياراته هو. اذن، ما هو معطى له، في الاساس، هو كونه مصدرا لاينضب للفعل وطاقة "على التحول التقمص لا آخر لها". ص 5

*صرت أنا المرآة:

عكست كل شيء(ك ت ه، 15)

هنا نجد أدونيس يشير الى ذاته بنفس الللغة التي استعملها لايبنتس للاشارة الى موناداته. الموناد صورة مصغرة للكون، ولكن ما هو مهم، من وجهة نظر لايبنتس، أنه "تعكس" الكون من " داخل"، لا من " خارج"، أي من وجهة نظرها الخاصة، ووفق شروطها الخاصة، بحيث لا تكون صورة الكون المصغرة فيها حاصل نتائج موضوعية خلفتها مؤثرات العالم الخارجي فيها. فالموناد، بحكم كونها ذاتية الانغلاق على نحو تام، لا تخضع لأي مؤثرات خارجية أو لأي شروط مستقلة عنها. ص 190

*فأدونيس.لا ينظر الى التموند على انه حالة طبيعية للشخص بل على انه المحطة الاولي على طريق التشخصن. ينبغي ان يتعلم الانسان أولاً ما معنى ان يكون فرداً(اي ما معنى ان يكون نظيرا للموناد)، تمهيدا لصيرورته ذاتا متشخصنة. ص 191

*الأرثوذكسية الكيركيغوردية تنتهي بالفيلسوف الى معاناة حالة توتر دينامية تمنعه من قبول اي شيء كحقيقة نهائية مسلم بها، لأنه هو ذاته ليس شيئاً يتناهى. إنه يجد نفسه دائما في حالة وجودية من النزوع نحو ما هو أكثر وضوحا وتميزا وقيمة، تائقاً دائماً إلى وجود أعلى، كما يؤكد نيتشه. ص 192

*المعرفة الموضوعية تراكمية، بحكم طبيعتها، ولا تقوم على تعليق المعرفة السابقة أو تجاهلها. ص 196

*يسكن مكاناً غير منظور: الحرية (م ص ج، 213)

من اللافت للنظر هنا وصفه الحرية، مجازياً، بأنها مكان سكنه. هذا  الوصف ذو مغزى فلسفي مهم. إنه يتضمن فيما يتضمن أن الحرية ليست مجرد صفة له أو لاختياراته وأفعاله، ليست مجرد محمول يُحمل عليه. بمعنى آخر، أن نقول إن أدونيس كائن حر ليس كقولنا، مثلاً، إنه قصير القامة أو إنه من مواليد 1930 أو إنه شاعر أو غير ذلك مما يمكن إسناده من صفات إليه. أن نقول إنه حر هو، بالأحرى، أن نقول إن الحرية بنية أنطولوجية جوهرية لوجوده بصفته فردا؛ إنها مكون ماهوي لذاته. ولذلك الأصح القول ليس إنه كائن حر، لأن الصورة الحملية للعبارة الأخيرة تولد التباساً في المعنى، بل إنه وجود- في- الحرية. الحرية، إذن، مكان سكنه بمعنى أن الحرية هي الحيز الذي يشغله في الفضاء الأنطولوجي بصفته وجوداً ذاتياً. أن يوجد "خارج" الحرية هو أن يلغي ذاتيته.

   إن هذا يؤكد أيضا في وصفه الحرية بأنها "مكان غير منظور". على هذا النحو، في السياق الحالي، هو على الأرجح للدلالة على كون الحرية مكوناً ماهوياً له بصفته وجوداً ذاتياً. وجوده- في- الحرية، بمعنى آخر، هو وجوده خارج عالم الظواهر المرئية( وجوده في مكان " غير منظور"). ص 200-201

*الوعي بالضرورة يتخذ موضوعاً له، أي أنه لا يوجد بصفته مجرد وعي، بل بصفته وعياً لشيء ما، ذهني أو لا ذهني، لا أهمية لذلك. الوعي، إذن، ي ذاته باستمرار بحكم ماهيته. السلبية المتعالية للوعي تكمن، إذن، في قصديته. وإذا أخذنا في الاعتبار الآن ربط أدونيس للحرية بالسلبية المتعالية للوعي، إذن يبتع فورا انه لا حرية في غياب القصدية. القصدية هي نافذة الشخص الانساني على ما يقع خارج الوعي، على ما ليس وعياً، ولا تتخذ دائماً مما هو واقعي موضوعاً لها. ولذلك هي أيضاً نافذته على ما ليس بعد، على عالم الامكان، مما يجعلها خطوته الأولى إلى خارج ما هو كائن وواقعي. وفي هذا تماماً تكمن سلبيتها وعلاقتها المفهومية بالحرية. إذن، أن يجعل أدونيس القصدية من مكونات ماهيته هو أن يتماهى مع حريته، مع كونه، ذاتياً، سلبية متعالية، وعياً ي ذاته باستمرار. ص 203

*ثمة ماهيات أو هويات موجودة فيه وجوداً امكانياً، ولا يمكنه، مثلما لا يمكن لأحد سواه، أن يعرف مسبقا ما الذي سيشكل في المستقبل موضوع اختياره من بينها. ولذلك يرى أدونيس إلى نفسه حشدا من الذوات( حشداً " من الأجساد"، بحسب تعبيره) الممكنة التي لا يمكنه أن يضمن مسبقاً مع أيهما سيتماهى:

جسدي حشد من أجسادٍ تتزاحمُ، أصغي

هذا ورقٌ هذا أرقٌ هذا يهبط ذلك يعلو

الوقت خيوطٌ

والغزل كرمية نرد( أ ش، 2، 415)

    الاختيار الحر مغامرة، أو الاصح القول مقامرة، إذ لا شيء يضمن نتائجه، مثلما لا شيء يضمن نتيجة رمية النرد. الاحتمال هو ما يتحكم به، لا الحتمي السببي أو العقلي. وهذا يوضحه أدونيس أكثر في قوله:

تتشرد في ألفاظٍ، لا سببُ

إلا ريحٌ تأتي وتروح وإلا موج يضطربُ

هل تعرف كيف يقيم وكيف يسافر فيك اللهبُ

كيف يكون الأحمر لجاً والأخضرُ موجاً؟

لك وجه الليل دليلٌ

ولوجهك هذا السرَُّ، وهذا السيرُ، وهذا التعبُ(أ ش، 2، 415، 416).

    وهو اذ يدرك هذا عن طبيعة الاختيار الحر، يحضنا قائلاً:

لنسر حيث لا شيء إلا الطريق وإلا الرهان( أ ش، 1، 574).

     أي حيث لا ضمانات كافية، حيث تتوحد سيرورة الاختيار بالمقامرة فتكون كل خطوة نخطوها إيغالاً في المجهول.

    إن تشبيه الفعل الحر برمية نرد أو بالمراهنة يفسر لنا بصورة أقوى لماذا يفصل أدونيس بين الحرية والمعرفة الموضوعية. فتشبيه كهذا يتضمن فيما يتضمن، كما رأينا، فهمه للحرية بمعنى ضد-سببي. إذن، الفعل الحر، وإن كان لا يعقل إنكار وجود أي شروط ضرورية له، إلا أن كونه فعلاً حراً يكمن، في المقام الأول، في غياب اي شروط كافية له. كيف يمكن، إذن، في هذه الحالة أن تؤدي المعرفة الموضوعية اي دور في سيرورة الاختيار؟ أن يعرف واحدنا موضوعيا قبل قيامه باختيار ما، ما هي الشروط المحيطة باختياره، و ما هي الشروط السابقة، على اختياره، وما هي النتائج المتوقعة لقيامه باختيار معين، بدل اي اختيار آخر متاح له في الوضع المعطى، أن يعرف كل هذا لا يقربه قيد أنملة من تزويده بسبب كاف للاختيار. فما دام لا وجود لسبب كاف للاختيار الحر، إذن ما يتبع باالضرورة المنطقية هو أنه لا يمكن لأي معرفة موضوعية أن تزوده بما لا وجود له، أي بسبب كاف لاختياره. هنا يتضح لماذا يصبح اللجوء إلى المعرفة الموضوعية من معوقات ممارسة الشخص لحريته، لانه اذ يوهم الشخص بأن معرفة كهذه ستزوده بسبب كاف للفعل، بالاضافة إلى كونه يجعل الشخص يتخلى عن مسؤوليته في اتخاذ القرار المطلوب، يجرد ممارسته للحرية من عفويتها. ص 206-207

*أن يعطي الشخص معنى لأفعاله الحاضة هو أن يمتلك فهما روائياً لحياته، وليس معرفة موضوعية لها. إنه فهم لما صاره لا يمكن ان يكون معطى له إلا في شكل قصة. وفيما هو يسقط حياته في اتجاه المستقبل، سواء، كان يُبقي على اتجاهها الحالي أو يعطيها اتجاها جديداً، فإنه بذلك لا يفعل أكثر من اسقاط قصة حياته المقبلة أي اسقاط ميل لكل حياته الآتية، وليس فقط حالة لمستقبل عابر. إحساسه بأن لحياته اتجاهاً يأخذ به نحو ما ليس هو بعد هو ما يجعل حياته نوعاً من البحثquest. ص 208

* يجد هيدجر أن التوجه نحو الواحد كامن في البنية الأنطولوجية الاساسية للانسان: إنه دالة لل"وجود"- مع (Mitsein) الوجود –في- العالم، من حيث كونه بنية أنطولوجية جوهرية للفرد، هو، قبل كل شيء آخر، وجود- مع- الآخرين(Mit Dasein). وهذا تماماً ما يفسر، في اعتقاد هيدجر، لماذا التبعية هي علامة مميزة للذات. إنه يفسر، بمعنى آخر، لماذا الفرد، من حيث هو وجود- مع الآخرين، لا يملك ذاته؛ إنها ممتلكة من قبل الآخرين.

   تحليل هيدجر لل" وجود-مع" يعطينا، إذن المفتاح لفتح فكرة الواحد أو ال"هم". الوجود- مع يصف متوسطية(averageness) الدازاين بصفته وجوداً مندمجاً في الواحد أو ال"هم". إنه يصف الحالة التي تكون فيها كينونة الفرد مسلوبة من قبل الآخرين، أي التي يكون فيه كل واحد هو الآخر ولا أحد هو ذاته. يومية  everydaynessالوجود في العالم لا تعود لها علامة مميزة، في هذه الحالة، أبرز من تلك العلامة الكامنة في الاستلاب، حيث مصدر الاستلاب هو سيطرة الآخر. هنا يتحول الانسان الى انسان- جمهور، إلى ذات فقدت طابعها الخاص وصارت ذاتاً عامة(public self). مصير الدازين، في هذه الحالة، هو الوقوع في فخ المتوسطية والتسطيح(leveling)، حيث الواحد، على الرغم من طابعه اللاشخصي، يمارس طغيانه على الفرد. الواحد يحكم غفلياً(by anonymity)، لأن کل واحد هو مثل کل آخر. إنه ليس ذاتاً محددة، ومع ذلك هو الحامل الحقيقي الذي تُحمل عليه الحياة اليومية.

   الواحد يمثل، اذن، الحالة التي تكون فيها الأنا هي "الآخر المعمم"، ولذلك هي حالة تمثل الامتثالية في أسوأ صورها. "الآخر المعمم" الذي لا يسمى هو صوت الخارج المذوَّت في كل واحد، دون أن يكون صوتاً لاحد محدد. كل ينطق بصوت هو صوت الآخر اللاشخصي ولا أحد ينطق بصوته. ولذلك يمثل الوجود- مع، بالنسبة لهيدجر، حالة لاغتراب الانسان عن ذاته(selbstfremdung)، حالة من "السقوط" ينفصل فيها عن وجوده الحق. هذه الحالة ليست عابرة في حياة الفرد، لأن الفرد هو، ماهوياً، وجود- مع. ص 209-210

*مشكلة وجود الآخرalter(الموضوع الاجتماعي)، لايمكن ان تنفصل، كما يلاحظ سارتر، عن مشكلة وجود الذات. فالذات، في وعيها الخاص لوجودها، لا تعامل نفسها كموضوع؛ إنها تصبح موضوعا فقط من وجهة نظر الآخر. ص 213

*لا يبدو، إذن، أن المسألة الاساسية لأدونيس هي، كما كانت لهيدجر، مسألة أنطولوجية خالصة نابعة من كون الوجود- مع ينتهي بالانسان لا محالة الى حال "السقوط" الذي اعتبره هيدجر محتوماً: كيف يتجنب حاجز ال"هم" بينه و بين ذاته. فالعالم الذي يعيش فيه أدونيس لم يفته التفنن في ابتكار الوسائل ذات القدرة الهائلة على التجريد. الانسان في عالمه يشيأ ويعمم في عملية موازاة أو تسطيح تحيله ليس فقط الى قطاع واسع من قطاعات حيواته المثقلة بالالحاحات الخارجية، بل أيضا الى مركز بسيط لتلقي النتائج الموضوعية. الانسان لا يعترف به وجودا- في- الحرية، بل لا يعترف به سوى من خلال شيء مجرد يتماهى معه، أي من خلال كونه، مثلا، قومياً او ناصرياً او بعثياً او سنياً او كاثوليكياً. انه وجود- في الامة او وجود- في- الحزب او وجود – في- الطائفة. وبعد اكتساح قيم الثقافة الاستهلاكية عالمه بكل قوتها، بلغ التجريد اقصاه، اذ تحول الانسان الى مجرد مستهلك. في ظل عوامل التجريد هذه، يُسلب الانسان حضوره الذاتي، يموت الانسان- الفرد ليحل محله الانسان- النوع. إننا في هذا العالم- لنستعر قول فاليري" مسجونون خارج ذواتنا".

  من هنا نفهم انشقاق أدونيس عن محيطه، معنى انغلاقيته المونادية. إن أدونيس يرد على عوامل التجريد والتشيء اللاشخصية في محيطه عن طريق التحصن في الداخل. إنه يرفض أن يكون مسجونا خارج ذاته، ويأبى ان يكون مجرد مركز لتقلي النتائج الموضوعية، ويتمرد على كل ما من شأنه أن يجرد وجوده من عينيته. التموند(التحصن في الداخل) هو الوسيلة لاستعادته ذاته (لانقاذها من براثن التجريد) ولاتقان فن الحفاظ على وجوده الذاتي. هذا ما نفهمه من قول له استشهدنا به سابقا، الا وهو: " وسأبقى؛ فأنا مسيج بنفسي". ولذلك لا نحتاج هنا الى كبير عناء لنعرف الى اين استدار عندما اعلمنا، قائلا:

عرف الآخرين

فرمى صخره فوقم واستدار(أ م د، 37)

إنه، لا شك، استدار الى عالمه الداخلي استادرة انطوائية بغية سبر اغواره لعله بذلك ينتهى الى أن يتعلم ما معنى أن يكون ذاتا أو أن يصبح ذاتياً . من الطبيعي، إذن، أن يؤكد أدونيس، على نحو مفارق، " في البعد عن الناس أنس" (ك ت ه، 190) و ان يخاطب الآخرين بقوله: " لا شيء يجمع بيننا- وكل شيء يفصلنا" (أ م د، 137) و ان يقيم الحواجز، على كل المستويات، بينه وبين عالم ال"هم". ص 215-216

*لا مهرب للفيناس من الوصول الى هذه النتيجة، أي الشرط الذي لا غنى عنه لظهور الذات. باختصار، ما دام الانا جوهريا هو وجود-للآخر، إذن المسئولية، لا الحرية، هي المكون الاساسي للوجود الذاتي. ص 227

*الوعي، بحكم طبيعته، يمتد الى خارج ذاته. ان ميزته الجوهرية، كما يذكرنا الفينومينولوجيون، هي القصدية. فالوعي بالضرورة هو وعي لموضوع ما. إن قصدية الوعي هي في أساس عدم محايثته لذاته. ص 228

*المنهج الفينومينولوجي يدعونا ألى فهمverstehenالعالم لا إلى معرفته wissen، وهو بذلك يعود بنا الى التقليد الرومانطيقي في الفلسفة، إلى شلنج، وهردر، ودلتاي،  دون أن يعني ذلك أكثر من كونه يرفض، مع الرومانطيقي، اخضاع الوجود الانساني لمقولات مجردة. الفهم هو المطلوب لا المعرفة، لأن الاخيرة، بمعناها العلمي الموضوعي، تخضع لمقولات ومعايير سابقة على التجربة، بينما الفهم، بمعناه الفينومينولوجي والرومانطيقي ايضا، لا يخضع لاي شروط سابقة. ص 234

*ولذلك صارت هذه العودة سمة مميؤز لما يسميه نايت" الادب باعتباره فلسفه" ، اي ادب الفينومينولوجيين من أمثال سارتر و جيد وسواهما. فالأدب، بعامة، ليس وسيلة الى المعرفة بمعناها العلمي او العادي، ليس اداة للتفسير بل للوصف. ولكن الوصف هنا لا يفهم بمعناه المألوف: انه يشكل طريقة جديدة للنظر الى الاشياء لا تخضع سوى للشروط التي تنشأ في سيرورة اختبارنا المباشر لها. ولذلك فهو ينطوي على رؤية الاشياء كما تتكشف لهنا من داخلها. من هنا فإن هذه الرؤية، غير ممكنة إلا بعد قيامنا بعملية رد فينومينولوجي تتيح للظاهرة ان تتعرى من شيئيتها- من كثافتها التجريبية وعلائقها السببية، بل من كل سماتها الجائزة وما أضفي عليه من خارجها من جراء اخضاع الادراك لمقتضيات الموقف الطبيعي. الرد الفينومينولوجي يشارك التحليل الديكارتي الكثير من سماته، ولكنه يه من حيث كونه لا يقف عند الذات التجريبية التي انتهى اليها ديكارت، بل يخضع الاخيرة ايضا لعملية الرد الفينومينولوجي بغية الوصول الى ذات متعالية. ص 234- 235

*في ظل النظرة الماضوية التي تسيطر على عالمه، الانسان مصنوع بالتاريخ وليس صانع التاريخ. امن هو القالب والانسان هو الصلصال الذي يتقولب بهذا الغالب. ولكن العكس هو ما ينبغي أن يكون: جهود الانسان هي التي ينبغي ان تقولب امن. ولذلك يريد ادونيس"ان يكون لمن وجه الصلصال"(م ص ج، 50) ص 239

*.أن الشرط الاساسي لعدم عرقلة حركة التاريخ هو ان نتوقف عن ان نكون اسرى التاريخ. ص 241

*فالتحرر من التاريخ هو، في المقام الاول، تحرر من النظرة السلطوية الى ماضي عالمه الثقافي وليس تحررا من التاريخ بما هو تاريخ. إنه إذن ، بمثابة ادراك الشاعر انه ليس للماضي سلطة عليه وان خروجه على هذه السلطة المزعومة ليس اثما باي معنى من المعاني. ولكن حيث لا تطبيق لمفهوم الشعور بالاثم لا تطبيق لمفهوم التوبة. من هنا يتضع كيف يصبح التحرر من سلطة الماضي صنو التحرر من التوبة. ص 250

*المسألة الاساسية هي عدم توحيد الحقيقة بشيء آخر وراء ذاتها. اذا كنت تصر على معرفة هوية الحقيقة، تجد ان الحقيقة هي ما تختبره على انه حقيقة. الحقيقة هي كما تراها وتسمعها وتشمها وتحياها فينومينولوجيا.

  ان ترى هذا يعني ان تصير انساناً بدون موقف. اقصد ان تخرج من اطار الفكر الى العالم، ان تذهب الى ما وراء اللغة- الى الاشياء ذاتها. هذا يعني ان تتوقف بان تكون فريسة ما يسميه هوسرل ب" الموقف الطبيعي" بكل مجرداته الفكرية- النظرية وبكل مفهوماته المتجوهرة. كذلك فهو يعني ألا تكون أي شيء غير ذاتك " الفارغة والنظيفة" عصرنا ليس عصر الانسان الحر، الانسان القابض على مصيره وتاريخه والم لعوامل التشييء. إنه عصر" الخضوع والسراب" (أ م د، 42) حيث التاريخ يسود لا الانسان، حيث المباديء تسود لا الانسان، حيث كل شيء يسود إلا الانسان. ص 253-254

*فعندما يصل واحدنا الى ان يحيا، كأدونيس، من ذاته وبذاته، لا يبقى ثمة شيء آخر ذو أهمية: لا الملك، لا النظم، لا المؤسسات، لا التقاليد، لا الفكرة، لا المعتقد. إن الناس يتعلقون بممتلكاتهم بسبب أنهم لا يحيون مع ذواتهم وبذواتهم. إنهم يستبدلون ممتلكاتهم بحياتهم، وانتزاع هذه الممتكلات منهم يعني لهم انتزاع حياتهم. وهذا يصح ايضا على معتقداتهم، واديانهم، وآلهتهم، ونظمهم. إن هذا منتهى الواقعية لهم. ص 265

* أن تعي ذاتك بصفتك شيئا مفردا ومميزاً، شأن أدونيس، لا تكون في الواقع قد حصلت على شيء. إنك فقط تكون قد تخليت عن كل ما ليس أنت. إنك تكون قد انطلقت من وضع كنت فيه خارج حيزك الذاتي إلى وضع صرت فيه داخل هذا الحيز، أي صرت فيه ذاتك. فأنت هنا، في أقصى تماهيك مع ذاتك أو تذوتك، من خلال فعل التخطي، تدرك أنك لم تصل الى هذا الوضع الذاتي الخالص إلا عن طريق قطعك كل الوشائج التي ربطتك بعالم ال"هم". فكلما ازددت التصاقاً بذاتك، ازددت احساساً بالهوة التي تفصلك عن عالم  ليس من صنعك. إنك الآن ذاتك "الفارغة والنظيفة" تواجه عالماً فارغا ايضا. إنك بحق" أمير الفراغ". ص 269

*اائل أجمل ما يملكه الأبدي(أ ش، 3، 559).

   ما هو مهم في الأبدي ليس أبديته، بل كونه حركة وكونه، بالتالي، يتجلى بالضرورة في غير ما هو أبدي، أي في اائل. ولكن علاقة الأبدي باائل ليست كعلاقة الجوهر الاسبينوزي، مثلا، بعوارضه، لأن الأبدي، من منظور أدونيس، ليس الأساس الانطولوجي الثابت لائل، كما هي الطبيعة الطابعة، في نظر اسبينوزا، الاساس الانطولوجي الثابت للطبيعة المطبوعة. الابدي هو الصيرورة الخالدة بالذات وليس أساسه الانطولوجي. الابدي هو اوال مؤبدا. ص 272

*. كون الانسان هو مولد أو خالق المعنى يجعل السؤال حول معنى اي شيء غير قابل ، نظريا، لاي اجابة نهائية وحاسمة، ليس الانسان أبدا في وضع يسمح له بأن يقول ان المعني الحقيقي والجوهري لهذا الشيء او ذاك هو كذا وكذا، و كأن هناك معنى جاهزاً كامناً في الشيء في ذاته ينتظر من يكتشفه، المعنى لا يتقرر باستقلال عن الانسان، من هنا نفهم قول أدونيس:" أنا سماء وأتكلم لغة الارض"(م ص ج، 89). ص 278

*" لغة الأرض" هي لغة الانسان النيتشوي ايضا، مع فارق أن ارادة الخلق هي التي تحتل لدى الانسان الادونيسي المكان الذي تحتله ارادة القوة لدى الانسان النيتشوي. ص 278

*الخروج من النفس هو، إذن، تعبير عن ارادة الكشف لا ارداة الخلق. ص 280

*العودة الى الاشياء ذاته، أو كما هي في بساطتها الاصلية، تستوجب الصمت(تعليق اللغة) وفقط الاصغاء. الكلام على الاشياء يحمل معه شتى الافكار المسبقة التي تراكمت في عقولنا حول الاشياء خلال تاريخ طويل. العالم، كما هو معطى لنا من خلال اللغة، ليس معطى لنا بصفته شيئا جاهزاً. اللغة المشحونة بالدلالات الأنطولوجية او، كما عبر وولتر بنيامين، اللغة مليئة بالطاقة الانطولوجية. إن الخريطة الانطولوجية للعالم، كما هو معطى لنا من خلال اللغة، ممثلة بشيء كمقولات أرسطو أو مقولات الفاهمة الكنطية أو باي تصورات و أفكار مسبقة نحملها في أذهاننا عن عالم الاشياء، هي حجاب يحجب عنا الاشياء في ذاتها. ولذلك من يبتغي العودة الى الأشياء في صفائها وبساطتها الاصليين عليه خلع هذا الحجاب وجعل شعاره الاساسي الشعار الآتي:

ليست الأرض لكي تفهمها، بل لكي تتآخى معها

( أ ش، 3، 4، 5)

      الارض تمثل هنا عالم الاشياء في صفائها وبساطتها الاصليين. والأرض، بهذا المعنى، ليست موضوعا للفهم، أي للفهم العلمي أول الفلسفي أو أي نوع آخر من أنواع الفهم العقلي، بل ليست موضوعا على الاطلاق، إن العلاقة الوحيدة الممكنة معها هي أشبه شيء بعلاقة الأنا- الأنت-I thou البوبرية( نسبة إلى مارتن بوبر)، العالم، في اطار هذه العلاقة، مجردا من كثافته الموضوعية، لا يمكن سوى اجراء حوار صامت ومباشر معه خارج حدود اللغة رمة. ص 281-282

*الوجود الانساني يتميز بالتعالي، بهذا المعنى، فقط من حيث كون الانسان يوجد خارج ذاته. التعالي هنا هو ربيب قصدية الوعي. فلأن الوعي، كما رأينا في فصل سابق، هو بالضرورة وعي لشيء ما فإنه، لهذا السبب بالذات، يدفع بالذات خارج ذاتها. ص 288

* هكذا أتحول فيك الى نفس يهبط من فم السماء

وينفخ في فرج الأرض

 هكذا أحضنك وأقول- من جديد

أنت الجسد الذي يسمى الغد

 وعلى هذا الجسد يُرمى نرد التاريخ(أ ش 3، 515)

   يؤكد أدونيس هنا على الترابط بين الخلق والتعالي واللغة. عنصر التعالي فيه منوط بالطاقة اللغوية الكامنة فيه، والخالق فيه هو ليد تعاليه، مما يوضح لماذا يتحول من خلال اللغة الى " نفس يهبط من فم السماء/وينفخ في فرج الأرض". التعالي بصفته من مكونات الذاتية هو، كما راينا، سمة جوهرية للوعي باعتباره نزوعاً نافياً، باعتباره سلبية خالصة. ولكن لايمكن فهم هذا النزوع خارج اطار القدرة على تصور الاشياء على غير ما هي. لا يمكن أن اقول "لا" لوجودي الواقعي بدون امتلاكي القدرة على تصور هذا الوجود على غير ما هو. هذه القدرة على التصور غير متاحة لكائنات غير لاغية. من هنا ارتباط التعالي الذاتي باللغة. والخلق، بدوره، يعيش في رحم التعالي. أن تخلق هو أن تبدأ بقول "لا" لما هو موجود وأن تبدأ، بالتالي، بخلق صورة أو معنى جديد له. ولذلك تصبح اللغة " الجسد الذي يسمى الغد" لأن التعالي الخلاق هو بالضروة حركة في اتجاه ما سيأتي. إنه حركة في اتجاه ما سيأتي. إنه حركة في اتجاه الصورة أو المعنى الجديد الذي يعيش في رحم (جسد) اللغة.

   ولكن هذا " الجسد الذي يسمى الغد" هو ايضاً الجسد الذي"يرمي عليه نرد التاريخ". لتوضيح الفكرة الأخيرة، فلنلاحظ أولا، أن ارادة الخلق لا تتجسد في توق لاكتشاف وقائع جديدة في العالم بقدر ما تتجسد في توق لتأسيس فهم جديد له وتأسيس علاقات جديدة فيه عن طريق اعادة ترتيب العناصر المكونة للغة، اي عن طريق إعادة رسم الخريطة السيمانطيقية للغة. ولكن الحرية شرط اساسي لإعادة اسم هذه الخريطة السيمانطيقية، وهي لذلك، في اساس اي افعال واختيارات تتجلى ارادة الخلق فيها. إرادة الخلق، اذن، تستوجب اعادة النظر في طبيعة اللغة ذاتها. بصورة أكثر تحديدا انها تستوجب النظر الى اللغة على انها مادة طيعة في يد الخلاق (الفنان او سواه) وليست نظاما مغلقا من الاشارات لا يمكن الخروج منه من هنا نفهم كيف يمكن للغة أن تتحول على يد الخلاق الى مولّد لفهم جديد للعالم ي الفهم القديم بكل شروطه ومستماته ونتائجه، فيصح عليها وصف الشارع بأنها "الجسد الذي يسمى الغد". ولكن ما دامت الحرية، كما رأينا، في أساس الافعال والاختيارات التي تتجلى فيها إرادة الخلق، إذن هي أيضاً شرط لا غنى عنه للنظر إلى الاشياء نظرة جديدة من جراء وضعها في سياق العلاقات الجديدة النابعة من تزاوج ارادة الخلق وطواعية اللغة. ص 294-295

*فإرادة الخلق تدفع دائما بالانسان للتحرك تحركا تواقا تتكشف من خلاله وتتبلور فيه حرية الفعل غير المشروطة. ولكنها لا تدفع بالانسان للتحرك نحو نقطة معينة ثابتة في الوجود. فلو تحددت لها غاية اخيرة لتقزمت هذه الادراة في نظام معين. ولكن لا يمكن لاي نظام، حتى النظام العقلي الذي ادعى مفكرو التنوير اكتشافه في العالم، أن يحتضن هذه الارادة ويحيط بفاعليتها المتأصلة في الحرية. إنها إذن، إذ تدفع بأدونيس للتوحد مع الاشياء عن طريق ما يضفيه من ذاته الخلاقة عليها، تحوله، كما رأينا سابقاً إلى فاعلية غائية دون غاية نهائية محددة. ص 297

* من هنا كانت ارادة الخلق لدى ادونيس انعكاسا للعالم الهيراقليطي حيث الصراع والحركة والتناقض بطانة العالم. فقد وجد هيراقليطس في النار العنصر الاساسي للعالم، العنصر الدائم الذي هو في اساس كل تغيرات الوجود المرئي، العنصر الواحد الوحيد الذي هو جوهر التعدد والكثرة- جوهر الصيرورة. إنه عنصر متحرك لا ساكن، متحرك في اتجاهات متعاكسة، وفي تحركه الدينامي يخلق التناقضات التي تجد تعبيرها المرئي في ظواهر التغير والتطور الدائمين. إنه كما فهمه نيتشه، "صيرورة وموت، بناء وهدم دون أية مسؤولية أخلاقية، ببراءة خالدة. فكما الطفل والفنان يلعبان، هكذا تلعب النار الخالدة المقدسة؛ إنها تبني وتهدم ببراءة. ص 299

*إنه الآن يتحمل وحده مسئوولية خلق معان جديدة للأشياء أو إعطاء الأشياء، على حد تعبير أرنست كاسيرر، "بعدها الثالث" الذي هو، أولا وأخيراً، بعد انساني. وهكذا يتضح كيف تتحول سيرورة تذويت أدونيس لذاته، عن طريق إرادة الخلق، إلى تذويت للعالم. ص 303

*الغاء " ميتافيزياء الحضور" هو اذن، تحويل لأشياء العالم الى اشياء ت باستمرار تجوهرها. إنه نفي تام لمقولة الجوهر وإعلان مبدأ أن "الوجود حركة". ص 304-305

*إنه(ادونيس) يجد نفسه أخيراً على أرض الصيرورة الهيراقليطية حيث لا خيار أمامه سوى ان "يخلق نوعه بدءاً من نفسه".عند هذه النقطة يكتشف أن اللعب الحر هو كل شيء و ان القواعد تأتي من الداخل، اي يكتشف أنه " الخريطة التي ترسم نفسها". إن القواعد تخلق في سيرورة اللعب الميتافيزيائي وتكتب على دفق الصيرورة، وما تكاد تكتب حتى تمّحي وكأنها تُكتَبُ على رمال متحركة. إن هذا هو المغزى الاخير لقوله:

  كالهواء أنا ولا شرائع لي (أ م د، 191)

حيث لا شرائع، يصبح كل شيء ممكناً. ص 306

*كل من كيركيغورد ونيتشه انحرف ايضاً عن الهيغلية معً بصورة خاصة النسق التركيبي للفلسفة الهيغلية المثالية. ان ما أثار احتجاج كل منهما يتعلق بالنزعة القوية في الفلسفة الهيغلية لإذابة الوجود الفردي في السيروة التاريخية- اللمنطقية وكذلك بالنزعية لتأليه الدولة. وكلاهما اختبر الاغتراب المتنامي للفرد في العالم الحديث الذي ابتدأت النزعة الجماعية وعوامل التشييء تتأصل فيه. وكما فهم كل منهما هذا الاغتراب فإنه لا يلد الا الضياع واليأس. إلّا أن الياس قد يلد، بدوره الخلاص فيما لو استطاع الانسان، في مواجهة للاشيء، أن يوقظ ذاته الى وجوده الحقيقي. كلاهما يواجه، إذن، الانسان بمهمة صعبة، مهمة تخطي اليأس في عالم يبدو فاقد المعنى. إلا أن كيركيغورد عاد واحتضن فكرة التعالي المطلق مرتكناً إلى "قفزة الإيمان" بينما نيتشه أعلن موت الله واستعد لتحمل المسئولية.

   الله مات والعالم، بسائق ذلك، مواجه بالعبثية واللاعقلانية. "بموت الله" كما أكد دستويفسكي على لسان كرامازوف، "لا شيء محرم". إلا أن نيتشه الذي كان له الفضل الأكبر في اعلان العدمية الأوروبية، قبل ان يترك الكلام لدستويفسكي، ثار على منطق كرامازوف ليستبدل به منطقاً اعمق "بموت الله لا شيء محلل". ما هدف نيتشه، في الواقع، إلى التأكيد عليه هو أنه بموت الله، فقدت الحضارة الأوروبية المعيار الذي ترسخ في أذهان أبنائها، بسائق أثر الفكر المسيحي في هذه الحضارة، أنه المعيار النهائي المطلق للأخلاق والقيم. وبفقدان هذا المعيار، لم يعد الأوروبي فقط مجردا من أي أساس لتحريم أي شي بل وايضا من اي أساس لتحليل أي شيء. ما ادركه نيتشه هو أنه في غياب أي معيار للتقويم، لا يمكن الاكتفاء بمنطق كمنطق كرامازوف والوقوف عند حد القول إنه لا شيء مطلقا محرم، بل يجب أن نكمل الصورة هنا ونضيف إنه لا شيء مطلقا محلل. وبذلك قبض نيتشه تماماً على الفحوى الاساسي للعدمية. فالعدمي ينفي وجود معايير للتقويم أو ينفي، على الأقل، أن يكون اختيارنا معايير كهذه أكثر من اختيار عشوائي خالص، مما يمه بأن يتبنى الموقف القاضي بنفي أن يكون أي شيء يحلل أو يحرم. إذن، من منظور معياري خالص، لا شيء محلل أو محرم، في اعتقاد العدمي، وان كنا، في الواقع، نحلل أو نحرم بناء على معايير نختارها عشوائيا فيما نحن نوهم انفسنا أنها معايير يفرضها العقل العملي أو تفرضها سلطة عليا معصومة.

    المسيحية في نظر نيتشه، هي الاكثر مسئولية عن التمهيد للعدمية الأوروبية، فهي التي رسخت في صميم الحضارة الأوروبية فكرة أن المعايير إما أن تكون أزلية مطلقة او لا تكون معايير بالمعني الحق. في ظل سيطرة فكرة كهذه، ماذا يمكن ان تكون النتيجة ل"موت الله" سوى فقداننا لأي معايير للتقويم وارتمائنا في أحضان العدمية، او في محاولة تجنبنا آثار العدمية الرهيبة، خلق مذهب علماني، كمذهب المنفعة أو المذهب الإنساني او المذهب الاشتراكي، يحاكي المسيحية في غائيتها واوهامها المتجسدة بالكلام على قيم او مثل عليا مطلقة. إن استبدال الاخلاق العلمانية بالاخلاق المسيحية ليس في حد ذاته موضع اعتراض من قبل نيتشه، بل ما هو موضع اعتراض من قبله هو الاخلاق الغائية، أدينية كانت أم علمانية، فإذا بقينا ندور في تلك الاخلاق الغائية، حتى عندما نتحرر من فكرة التعالي المطلق، فإننا نبقى في ذلك نلعب اللعبة المعيارية اياها التي ورثناها عن الاخلاق المسيحية، حيث نستبدل بالكلام المسيحي على غايات أخروية نهائية كلاما على غايات أرضية نهائية. ولذلك فإننا نظل معرضين للوقوع في شرك النزعة المطلقة التي تنطوي عليها الاخلاق المسيحية. والأهم من هذا، في نظر نتيشه، أننا في محاكاتنا لغة الاخلاق المسيحية. وبقائنا ضمن إطار لعبتها اللغوية، فإننا بذلك لا ننجح مطلقاً في طرد شبح العدمية، بل بفتح السبيل أمامه لمطاردتنا من جديد. وهذا يعود، في نظره، إلى أن الكلام على غايات أرضية نهائية ليس أقل انغماساً في الوهم من الكلام على غايات أخروية نهائية. المطلق الأرضي، بمعنى آخر، ليس أكثر حظاً في الثبات من المطلق السماوي.

   ثمة حاجة، إذن، للذهاب خارج هذه اللعبة المعيارية رمةً، أي بحسب تعبير نيتشه، ل"إعادة تقويم كل القيم" إن المسألة الأساسية هنا، قبل ان تكون مسألة خلق قيم جديدة، هي مسألة تغيير اللعبة المعيارية رمةً كما تمارس في ثقافته. أن تحاول خلق قيم جديدة، فيما أنت تلعب اللعبة المعيارية إياها وتراعي، بالتالي، قواعده هو أن تبقى ضمن أطار" مملكة الغايات" بكل أوهامها وطواطمها، مكرساً بذلك النزعة العدمية التي أنت مزمع على اجتنابها. إن ما تفعله، في هذه الحالة، ليس اعادة تقويم لكل القيم، بل اعادة تقويم لما أدعوه ب"قيم المستوى الأول" للغة المعيارية وليس لقيم المستوى الثاني، أي قيم اللغة الميتا – معيارية التي تتخذ من المستوى الاول موضوعا ًلها. ما نجده على المستوى الثاني هو تثمين للمستوى الأول بكل القواعد التي ينطوي عليها والتي تقضي بالفصل على نحو مطلق بين الخير والشر، والواجب واللاواجب، الحق والباطل. واعادة تقويم كل القيم لا يمكن ان تعني، لذلك، أقل من اعادة تقويم اللغة المعيارية ذاتها بكل ما تنطوي عليه من افتراضات قبلية وبكل ما يترتب عليها من نتائج عملية، مما يعني ليس فقط اعادة تقويم القيم التي تنشأ على مستوى ممارستنا للغة المعيارية بل، والأهم من ذلك، اعادة تقويم موقفنا الايجابي من هذه الممارسة وما تنطوي عليه من ثنائيات مطلقة. من هنا نفهم لماذا ربط نيتشه مسالة إعادة تقويم كل القيم بفكرة الذهاب الى " ما وراء الخير والشر" (Beyand good and evil)، إن نيتشه يحاول وضعنا هنا إزاء ما اعتبره المشكلة الحقيقية، أي مشكلة كون اللغة المعيارية السائدة، باستامها الفصل على نحو مطلق بين الخير والشر، الواجب واللاواجب، الحق والباطل، لا تسمح ولا يمكن ان تسمح لنا، كائناً ما كان المضمون المحدد الذي نعطيه للمحمولات الأخلاقية أو المعيارية، بعامة، أن ن الأوهام المترتبة على الاخلاق الغائية، من هنا يصبح الذهاب إلى ما " وراء الخير والشر" تأكيداً على أن ما تعنيه اعادة تقويم كل القيم ليس مجرد محاولة خلق قيم جديدة، بل محاولة خلق لغة معيارية جديدة.  ص 310-311-312-313

*ولكن أدونيس يدرك مع نيتشه أن تعليق كل المعايير يعني ايضاً أنه لا شيء محلل وانه، بعد القفزة التي حققها إلى ما وراء نظام القيم السائدة، يتحمل وحده مسؤولية تأسيس لغة جديدة للقيم لا تتقاطع مع اللغة القديمة، ولذلك يخاطبنا أدونيس بلهجة الأنبياء مطمئنا":

ما جئت لألقي الخوف بل التغير ( م ص ج، 252) ص 315

*بادراك الانسان لكونه "طقس نفسه"، يتحرر من وهم أن الثنائيات المعيارية ثنائيات مطلقة وتتغير بذلك نظرته إلى طبيعة المعايير والقيم وطبيعة اللغة المعيارية ذاته، فيصير بامكانه ان يلعب اللعبة المعيارية على نحو مباشر. ولكن هذا لا يعني أنه الآن استسلم لمنطق كرامازوف ويسوغ " لكل قائل ما أراد". إن مسؤولية الانسان أكبر الآن، لأنه لا يعود مجرد متلق لمعايير وقيم تأتيه من سلطة خارجية يزعم أنها مطلقة، بل يجد نفسه في وضع يتحمل فيه وحده مسؤولية خلق المعايير والقيم. إنه هو نفسه الآن المصدر الاعلى والسلطة الاخيرة للقيم. من هنا لا نفاجأ عندما نرى ان الشطط الادونيسي ليست خاتمته الفوضى، بل النظام:

 وهذه قصيدتي تلبس قفطانها

 في شطط موزون في رياضيات يمليها القلب( أ ش، 3، 178)

قربانی شدنِ توده‌یِ بشریت به سودِ بالیدنِ نوعِ تواناتری از انسان

قانون ملل- جان رالز- مترجم: مرتضی بحرانی و محمد فرجیان-نشر پژوهشکده مطالعات فرهنگی و اجتماعی-1389

تاریخ، فرهنگ وهنر ترکمان- اسدالله معطوفی –جلد دوم–انجمن آثار و مفاخر فرهنگی -1383

في ,لا ,على ,هو ,أن ,ص ,ما هو ,على نحو ,من هنا ,لا شيء ,لا يمكن ,غايات أخروية نهائية ,غايات أرضية نهائية ,وراء الخير والشر ,رياضيات يمليها القلب

مشخصات

تبلیغات

محل تبلیغات شما

آخرین ارسال ها

برترین جستجو ها

آخرین جستجو ها

اطلاعات